كنكلو… حين يفيض القلب بما لا يُقال

person محمد جانكير
Story Image
ما إن أسترجع طفولتي حتى تتقدّم كنكلو من بين ظلال الذاكرة كعروسٍ خرجت لتوّها من حمّام الضوء. قرية صغيرة، هادئة، لكنها كانت بالنسبة لي كونًا كاملًا، مملكةً بلا أسوار، وسماءً تتدلّى من أغصان الحور، وأرضًا تفرشُ العشب كأنها تُعدّ لنا طفولةً لا تتكرر.

كنتُ أستيقظ على رائحة الرطوبة الصافية المتسللة من ينابيع الماء، وتلك الجداول الرقيقة التي كانت تمرّ قرب بيوتنا كخيطٍ من فضة مفتول بأصوات الطيور. هناك، تعلّمتُ أن الماء لا يجري فقط… بل يغنّي، وأن الأرض لا تُزرع فقط… بل تروي حكاياتها لمن يفهمها.

في كنكلو، كانت البساتين تمتدّ من طرف الذاكرة إلى طرفها الآخر. بساتين بطيخ وخضرة، وكروم عنب تتدلى حباتها كالنوافذ المضيئة في ليالي الصيف. كلما مررتُ بين الصفوف الخضراء، شعرتُ أن للأوراق همسًا خفيفًا يشبه حديث الجدّات في المساء. لم تكن الطبيعة هناك مجرد مشهد؛ كانت أمًا ثانية، تربي وتحنو وتُعلّم الصبر والرضا.

وعلى التلال التي تعانق القرية، كنا نركض خلف أغنامنا، نضحك عندما تتجه نحو أماكن لا نريدها، ونفرح حين نسير معها إلى مراعي واسعة لا يقطع أفقها شيء. الأبقار بدورها كانت تسير ببطء متعمد، كأنها تحفظ خطواتها على الأرض لتظلّ القرية ثابتة لا تهتزّ.

أما ملعب كرة القدم الوحيد، فكان أكثر من ملعب. كان صحراء أحلامنا الأولى، حيث نركض حفاةً، ونظنّ أن العالم كله لا يتجاوز حدود تلك البقعة الترابية. كنا نحتفل بهدفٍ كما لو أننا فتحنا مدينة، ونغضب لخسارةٍ صغيرة كأن التاريخ سيسجلها علينا.

وفي قلب القرية، تقف المدرسة القديمة، بصفّها الواحد، كشيخٍ عاش كثيرًا لكنه لم يفقد هيبته. جدرانها المهترئة كانت تحفظ أصواتنا، ترددها في الليل وكأنها تخشى أن تنساها. كم تعلمنا فيها! لا من الكتب وحدها، بل من صرير الباب، ومن خطوات المعلّم، ومن دفء الشمس التي تدخل شقوق الجدار لتضيء دفاترنا.

وكبار السن… يا لهيبتهم! كانوا يمشون في الأزقة ببطء، لكن أعمارهم تتقدم بخطوات جبارة في أرواحنا. وجوههم تشبه جذوع الحور العالية، لها نفس الصلابة ونفس القدرة على البقاء. كانوا يحفظون تفاصيل المكان كما تحفظ الأم ملامح طفلها، ويعرفون كل نبعٍ وجسرٍ وساقية كما يعرفون خطوط كفوفهم.

الفجر في كنكلو كان يبدأ من أعشاش العصافير. صوت صغير، ثم صوت آخر، ثم ينهض النهار كأنه يُستدعى من نومه بالغناء. وأما الليل، فكان يتكئ على التلال ويغطي القرية برداءٍ من السكون، لا يقطعه إلا خرير الماء أو نباح كلب بعيد.

واليوم، حين أغادر صخب المدن، وأغلق باب الغربة خلفي، أشعر بأن قلبي يمشي وحده إلى كنكلو. يمشي إليها كما يمشي العاشق إلى موعده الأول، خفيفًا، مرتعشًا، ممتلئًا بما لا يُقال. أشتاق لكل حجرٍ فيها، لكل جدول، لكل ظلّ شجرة، لكل ضحكة ضاعت فوق ملعبٍ قديم.

أشتاق لكنكلو… لأنها ليست مكانًا فقط، بل هي الجزء النقيّ من روحي. الجزء الذي لم يلوثه العمر، ولم يمسّه الوجع، وظلّ كما هو… ضوءًا صغيرًا يلمع في الداخل كلما ضاقت الطرق.

كنكلو… يا طفولتي ويا وطنًا لا يُغادرنا مهما غادرناه