زورافا… وادٍ صنعته القلوب قبل البيوت

person محمد جانكير
Story Image
حين انتقلتُ إلى الشام، لم أكن أعلم أنّ قلبي سيجد وطناً صغيراً داخل الوطن، وأنّ قدمي ستقوداني بعد سنوات إلى حيّ بسيط، لكنّه مغمور بالدفء اسمه زورافا، الحي الذي بُني “بالزور” كما كانوا يقولون، لكنّه في الحقيقة بُني بالحبّ والصبر والجهد المتراكم في قاع وادٍ صار لاحقاً يُعرف بـ وادي المشاريع الغربية.

هناك، قرب نهر بردى، وعلى مقربة من ضاحية مشروع دمر الراقية بأبراجها العالية وشوارعها النظيفة، وفي الجهة الأخرى ظلّ قصر الرئيس الديكتاتور يراقب الصمت، لكنّ الناس في زورافا كانوا يعيشون حياة أخرى… حياة لا يعرفها إلا من عاش وسط تلك القلوب المتعبة الجميلة.

كان سكان الحي خليطاً جميلاً من أبناء الجزيرة السورية، أغلبهم من الكورد، وبين الأزقة كانت تنبت رائحة زيت الزيتون الآتي من عفرين، ولهجة أهلها التي تشبه غناء الجبال. كانت الكهرباء “تهريباً”، أسلاك متهالكة تتشابك فوق الرؤوس، لكنها كانت رغم كل فوضاها تُضيء لياليهم الدافئة. والماء يأتي من خراطيم سطحية تمتد من قاع الوادي حتى تصل إلى أعلى قمم زورافا… وكأنّها شرايين حياة تربطهم بالأرض.

الرجال هناك كانوا بنّائين، يقيمون البيوت في يوم واحد، كأنما يشيدون أحلاماً متعجّلة لا تحتمل الانتظار. والآخرون يعملون في المطاعم، يحملون تعبهم في وجوههم وطيبتهم في أيديهم. أمّا الزائرون، فكانوا طلاب جامعات، ومرضى يبحثون عن الشفاء، وأهالٍ يقصدون الدوائر الحكومية في دمشق… وكلّهم كانوا يمرّون بزورافا لسبب، لكنّ الحيّ كان يمرّ في قلوبهم دون سبب، دون استئذان.

في زورافا، كانت العلاقات الاجتماعية أشبه بأغنية قديمة… بسيطة، صافية، ومليئة بالحنين. الناس هناك يعيشون معاً كما لو أنّهم عائلة واحدة. أفراحهم مشتركة، همومهم مشتركة، ولحظاتهم الدافئة كانت تملأ المكان رغم البرد، رغم الطين الذي كان يغرق الشوارع في الشتاء.

الأطفال كانوا يركضون كل صباح باتجاه مدارس مشروع دمر الراقية، يحملون حقائب متواضعة وأحلاماً كبيرة، وبعضهم يتجه نحو مدارس دمشق. كانوا يسيرون في طرقات طينية، تعلوها أثار أقدام صغيرة لأطفال يكبرون على أمل أن تكون حياتهم أكثر تمهيداً من شوارعهم.

وبرغم القسوة، برغم بيوت تُبنى في ليلة واحدة وكأنها تسكن المكان منذ عشر سنوات، ظلّ أهل زورافا محافظين على عادات الجزيرة وعفرين، على أغانيهم، أكلاتهم، طيبتهم، وكأنّ الحيّ قطعة صغيرة من وطن بعيد، استقرّت بين الجبال والبردى لتقول:

نحن هنا… نعيش رغم كل شيء.

زورافا لم تكن حيّاً فقط، كانت حضناً… كانت ذاكرة.
وكل من عاش فيها، ترك جزءاً من قلبه هناك، بين أسلاك الكهرباء المتشابكة، وخراطيم الماء الممتدة كالقصص، وبين وجوه الناس الذين كانوا يبتسمون رغم ضيق الحياة…

فالحب في زورافا كان أثمن ما يمتلكه الجميع، وأكبر مما يمكن أن تبنيه ألف جدار.