اسئلة إلى امي

person محمد جانكير
Story Image
اسئلة مخفية في القلب
أماه…
قولي لي،
هل ما زلتِ تستيقظين قبل أن يتثاءب الفجر،
وتلبسين من صبرك معطفاً دافئاً،
وتخرجين إلى الحظيرة،
تطعمين الأبقار حفناتٍ من تبنٍ وشعير،
ثم تربتين على ظهورها،
وكأنها تعرف أن يديكِ وطنٌ صغير؟

هل ما زالت الدجاجاتُ تلاحقكِ،
تركض خلفكِ كأطفالٍ جياع،
حين تذهبين إلى غرفة المونة؟
وهل ما زال صوت حبات القمح
يشبه موسيقى خفيفة تتساقط على الأرض؟

وهل ما زالت خيوط الشمس
تكسو دوالي العنب من الشرق،
فتُثمر الأيام حلماً حلواً،
ونسكب نحن عنبها في أفواه الفرح؟

أماه…
هل ما زلتِ ترافقين الأبقار إلى ساحة القرية،
تنظرين إلى السماء،
وتقولين:
“الله يبعث نهاراً طيّب”؟

وهل ما زال هو نفسه،
ذلك الرجل الذي لم يتغيّر،
يسرح الأبقار في البراري والوديان،
يمشي بخطواتٍ يعرفها التراب،
ويعود مساءً بعينين فيهما غبار النهار وتعبه؟

هل ما زلتِ تحضّرين الفطور لأبي في الصباح،
لبن، وقشطة، وبيضاً بلديّاً،
قبل أن نستيقظ؟
وهل ما زلتِ تبتسمين،
حين نخطف القشطة من على وجه الطنجرة؟

وهل ما زالت رائحة خبز تنورك
تصعد إلى التلال،
وتنزل إلى الوديان،
لتقول للقرية:
“هنا بيت لا يزال ينبض”؟

هل ما زالت ضحكاتكن،
أنتن نساء القرية،
تمتلئ الهواء،
كأن الفرح مهنة النساء،
والرجال عابرو طريق؟

هل ما زلتن تملأن الماء من النبع،
وتجملنه بالدلاء إلى البيوت،
وتغنين…
حتى لا يشعر التعب بالوحدة؟

وهل ما زال صوت الرصاص
يمزّق سماء القرية في زفة العرس،
ويقول للفرح:
“كن صاخباً… فإن الحياة قصيرة”؟

وهل ما زال مزمار أحمد أصلان
يشقّ الليل،
ويوقظ البيوت،
ويرقص على حواجز النوم؟

هل ما زالت نساء القرية
يسكبن “السكبة” لبعضهن،
فيصبح الغداء ضيفاً على كل بيت،
وتصبح المائدة قلباً يتسع للجميع؟

وهل ما زالت علبة تتن أبي في مكانها،
كأنها قطعة من التاريخ،
لا تُمسّ،
ولا يُسأل عنها؟

وهل ما زال يضيف تبغه للشباب،
من يدٍ صنعت،
ومن قلبٍ لم يبخل؟

وهل ما زالوا يلعبون الورق حتى منتصف الليل،
ويختلفون على “الديناري”،
ويضحكون رغم الخسارة؟

أماه…
هل ما زال جهاز الپيل
يعمل على بطاريات البرق،
ويضيء الطريق أمام أبي
حين يعود من سهرة الطرنيب،
يمشي بنورٍ صغير،
وخطى كبيرة؟

وهل ما زال صوته يملأ المضافة،
حين ينتصر،
ويضحك على ختيار الديناري،
ضحكةً تجعل الليل أخفّ؟

هل ما زلتِ تذبحين الديك
لوليمة سطح بيتنا في نهاية الصيف،
بعد يوم شاق من تحضير الشتاء،
وتقولين:
“تعبنا… لكن الله كريم”؟

قولي لي…
هل بقي كل شيء كما كان،
أم تبدل كل شيء؟

هل ما زال أطفال القرية
يلعبون بالدواليب والدحاحل،
ويركضون خلف الريح،
كأن الريح لعبة؟

هل ما زلتِ تبدلين البيض
بالصابون والحلاوة والدبس،
من دكانٍ صغير،
يعرف أسرار القرية أفضل من أهلها؟

هل ما زال الربيع يأتي في موعده،
ويورق الشجر،
وتشتم الأرض رائحة المطر؟

وهل ما زال الشتاء يجيء ثقيلاً،
برداً وجمرة،
فنختبئ خلف الطعام المخزون والقصص القديمة؟

وهل ما زال الصيف حاراً في النهار،
عليلاً في الليل،
كأن الله يعتذر لنا عن النهار بالنسيم؟

أماه…
قولي لي،
هل ما زالت القرية كما تركناها،
بأسماء الناس،
ووجوههم،
وبيوتهم التي تشبه قلوبهم؟

أم أن القرية تغيّرت،
ونحن تغيّرنا،
والأرض بقيت وحدها،
تنتظر من يعود،
وتنتظر من يحنّ؟

أماه…
أخشى أن لا يكون شيء كما كان،
وأن الماضي صار وطننا الوحيد،
وأن الذاكرة هي القرية الأخيرة،
التي لا تغادر قلوبنا،
حتى لو غادرناها.