عند ضفاف نهر السفان

person محمد جانكير
Story Image
كانت قريتنا تستقرّ على سفح تلةٍ عالية، تطلّ على وادٍ ذي نهرٍ لا يهدأ هو نهر السفّان؛ النهر الذي يشقّ طريقه من جبال كردستان تركيا، مارًّا بمدينة ديريك، ثم منسابًا بين القرى التي تتعانق ضفّتاها على امتداد الوادي، قبل أن يودّع رحلته الطويلة في مصبّه عند المثلث الحدودي بين تركيا وسوريا والعراق. هناك، في ذلك المشهد الذي يختلط فيه جريان الماء بخشونة الجبال وهدوء السهول، تشكَّلت طفولتنا، بكل ما حملته من شقاءٍ ومتعة، وتعبٍ ولهو، ودهشةٍ لا تنتهي.

على ضفاف النهر، كانت تمتدّ غابات من الحور والصفصاف، تتمايل أغصانها كأنها تبارك المارّين. وكانت هذه الغابات مصدر رزق رجال القرية؛ إذ عملوا في قطع أشجار الحور، ومن بينهم أبي. ومع أن العمل كان شاقًا، فإنّه شكّل لنا نحن الأطفال عالمًا موازيًا، عالمًا اكتشفنا فيه أنفسنا والطبيعة معًا.

كنا، في منتصف النهار، نحمل “البُخجَك”؛ تلك الزوادة التي أعدّتها الأمهات بعناية، ونمضي في جماعات نحو ورشة قطع الأشجار في عمق الوادي. كل طفل يحمل زوادته وكأنه يحمل مهمة خاصة مُوكلة إليه وحده. كنّا نمشي بحماسة، غير عابئين بحرارة الشمس أو وعورة الطريق، فالوصول إلى الرجال كان بداية مغامرة، وليس نهايتها.

عند حلول الساعة الثانية عشرة، يبدأ الرجال في ترك محاوراتهم مع الأشجار، ويجتمعون حول لقمة الغداء. هناك كنّا نتولّى إشعال قطع الخشب الصغيرة لإعداد الشاي، نراقب النار وهي تلتهم الأعواد، ونصغي لصوت غليان الماء كأنّه نشيد الظهيرة. وبعد أن ينتهي الرجال من طعامهم، نقدّم لهم الشاي على مهل، ثم نعيد بقايا الطعام إلى الزوادة، كطقسٍ مكرر لا يخلو من الفخر.

وحين يعود الرجال إلى أعمالهم، نبدأ نحن رحلتنا بين الأشجار. لا شيء كان يمنحنا تلك البهجة مثل البحث عن أعشاش الطيور المخفية بين الأغصان، أو العثور على عناقيد عنب تسرّبت من كرمٍ مجاور، أو قطف ثمرة تينٍ ناضجة على ضفاف النهر. كنّا نعرف السواقي كلها: ساقية بيت شاويش، وساقية بيت حجي محو، وكأننا خرائط حيّة للغابة.

ثم تأتي الساعات المفضّلة لنا: السباحة في مياه السفّان. كنّا نغوص ونطفو ونضحك، نراقب انعكاس الشمس على سطح الماء، ونشعر بأن النهر يحتضن طفولتنا كلها. لم نكن نعود إلى القرية إلا بعد أن تبتلع الشمس نصفها خلف التلال. وكان آباؤنا غالبًا قد سبقونا، تاركين لنا متعة اللحظات الأخيرة مع الماء والضوء.

ومع كل عودةٍ متأخرة، كانت في انتظارنا عتابات الأمهات وتهديداتهن الخفيفة، التي كنا نعرف أنها لا تمنعنا من تكرار الرحلة ذاتها في اليوم التالي. كان كل صباح يبدأ بنفس الحكاية، وكل مساء ينتهي بعقاب بسيط لا يُطفئ جذوة المغامرة في داخلنا.

والآن، حين أستعيد تلك الأيام، أرى فيها خلاصة زمنٍ صنع جزءًا كبيرًا من ذواتنا: زمن اختلط فيه تعب الرجال بضحكات الأطفال، واجتمع فيه جمال الطبيعة مع صرامة الحياة الريفية. كان نهر السفّان أكثر من مجرى ماء؛ كان ذاكرةً حيّة، وبيتًا آخر، وطفولةً تستحق أن تُروى