رحلة إلى عين ديوار

person محمد جانكير
Story Image
على ظهر الشفروليه – حكاية من عين ديوار

لم يكن الفجر قد اكتمل بعد حين خرجتُ من البيت، أبحث بعينيّ الصغيرتين عن أيّ ضوء يتسرّب من وراء التلال. الطريق الترابي كان هادئًا كأنه يمسك أنفاسه انتظارًا لشيء ما. كنت أعرف أن هذا اليوم مختلف؛ فالأستاذ إبراهيم خليفة وعدنا أمس برحلة إلى عين ديوار، المكان الذي يتحول اسمه وحده إلى جناحين للطفل الذي كنته.

عند باب المدرسة، كنا نقف كصفّ من العصافير الصغيرة، بملابسنا الأنيقة الوحيدة التي نرتديها في كل المناسبات، وبشعور ممشطة دون زيت ولا كريم — فكل شيء كان طبيعيًا في تلك الأيام، حتى الفرح.

كان كل واحدٍ يحمل زوّادته: بيضتان مسلوقتان، وربما قطعة حلاوة أو علبة مربّى لمن تسعفه مصروفات أهله أو ما يُخفى من البيض تحت النملية. كنا ننتظر، نضحك بلا سبب، وننظر إلى الطريق الترابي كأنه بوابة إلى الحلم.

ظهر الأستاذ إبراهيم من بعيد، يحمل شنطته على كتفه، ويمشي كمن يعرف ما تخفيه الطرق. كان قادمًا من القرية، لكنه بدا لنا أقرب إلى المدينة التي لم نعرفها إلا يوم نذهب لالتقاط صورة في “ستوديو النجوم” بديريك.

لم يكد يصل حتى دوّى صوت محرك الشفروليه القديمة، البيك آب الوحيد في القرية، ملك المرحوم الخال حجي صالح حجي محو. توقفت السيارة أمامنا، ونزل منها الخال بكامل أناقته، يوزع شتائمه اللطيفة على من يصادفه:
“كري كُرة… صبّاب… كوري صاه…”
ثم يختمها بسؤاله الذي صار جزءًا من شخصيته:
“بابي تة جاوَي لو؟”
كأنه يعتذر عمّا قال بابتسامة لا يغلقها الزمن.

صعدنا إلى الصندوق الخلفي للسيارة، وتراصصنا كأننا سفر واحد. ومع أول اهتزاز للمحرك، انطلقت ضحكاتنا قبل أن تنطلق السيارة نفسها.

مررنا بقرى لا نعرف أسماءها، وحقول تمتد بلا نهاية. وعند قرية كاني كرك، التفت إلينا الأستاذ إبراهيم وقال بصوت مصطنع الجديّة:
“سدّوا آذانكم… قد تصابون بالصمم!”
أغلقنا آذاننا، وضحكنا من دون أن نسمع صوت ضحكاتنا.

حين بدأت السيارة تهبط نحو الوادي، توقف الكلام فجأة. أمامنا انفتح عالم لم نره من قبل: غابة كثيفة، نهر أعظم من أحلام الطفولة، أشجار رمان وعنب وتين، وأصوات موسيقى تختلط بالهواء كأن الوادي يحتفل بقدومنا.

اتخذنا مكانًا تحت شجرة كبيرة، وغمرتنا دهشة الوجوه الجديدة، المدارس القادمة من كل القرى، ضحكات البنات والشباب، ورائحة الفحم والخبز وطمبورك يغني بعيدًا.

ذهبنا إلى الجسر الروماني. كان واقفًا فوق الماء كشيخٍ من زمن آخر. وبينما كنا نتسابق فوقه، انزلق أحد الأولاد وسقط في النهر. تجمدت قلوبنا، لكن الأستاذ إبراهيم قفز بلا تردد، ونزل إلى الماء وأنقذه. صارت بطولته حديث الجسر والوادي.

حين حان وقت الغداء، جلسنا حول زواداتنا البسيطة: بيض مسلوق، معكرونة، مربّى، حلاوة… وكأن هذه الأكلات اكتسبت نكهة جديدة حين امتزجت بصوت الماء والهواء والفرح.

الشباب يرقصون، الطنبورك يعزف، والأغاني الكوردية تصعد إلى السماء كما لو أنها تعيد رسم الوادي بألوان أعمق وأجمل.

كنت أقف قرب النهر، أنظر إلى الماء الذي لا يتوقف، وأفكر للمرة الأولى أن العالم كبير… أكبر بكثير من حدود القرية.

وقبل أن نعود، التفتُّ نحو الجسر الروماني، نحو الغابة، نحو النهر الذي يشبه الأحلام الواسعة، وأحسست أن هذا اليوم سيبقى معي إلى الأبد.

عدنا على ظهر الشفروليه كما جئنا، لكننا لم نعد كما كنا؛ تركنا في عين ديوار جزءًا من طفولتنا، وأخذنا منها ما يكفي لنظل نبتسم كلما تذكرنا ذلك اليوم