في عام 1968، أخذني أبي إلى مدينة حلب برفقة العم الطيب أبو إبراهيم محمد صوفي.
كنت آنذاك طفلاً قادماً من قرية نائية، فانبهرت بأضواء المدينة التي لا تنام. نزلنا في أحد فنادق حلب، وكان ذلك بالنسبة لي عالماً من الدهشة والغربة في آن واحد.
وفي اليوم التالي، خرج أبي والعم أبو إبراهيم لقضاء بعض الحاجات، وأوصى عمال الفندق بي خيراً، تاركاً إياي في الغرفة أطل على المدينة من علو مرتفع، أراقب الناس والسيارات وكأنها دمى صغيرة تتحرك في لوحة ساحرة.
وبينما كنت أتجول في الغرفة، رغبت في دخول الحمام، وهناك رأيت شيئاً غريباً لم أعرفه من قبل: صندوق صغير تتدلى منه سلسلة معدنية لها قبضة! شدني الفضول، فسحبتها نحو الأسفل…
وفجأة! اندفع الماء بقوة وصوت عال!
تجمدت مكاني، وارتجف قلبي الصغير…
ظننت أنني ارتكبت جريمة عظيمة، وأن نصف مدينة حلب قد جرفتها المياه، وأن النساء والأطفال قد غرقوا! شعرت بالعرق يتصبب من جسدي ووجهي قد اصفر من الخوف.
وحين عاد أبي، لاحظ اضطرابي وسألني بلطف:
ما بك يا ابني؟
فأجبته بصوت مرتجف:
والله يا أبي فعلت فعلاً عظيماً… وأخبرته بما جرى.
عندها انفجر ضاحكاً، واقتادني نحو الحمام، وأمسك بالسلسلة نفسها وشدها بقوة وقال ممازحاً :
هيا، فلنغرق ما تبقى من حلب!
ثم ابتسم وقال:
يا بني، هذه ليست لجرف البيوت، إنها للماء الذي ينظف المرحاض، ولا تملأ حتى طنجرة صغيرة! لا تخف، لم يمت أحد، ولم ينجرف بيت.
حينها تنفست الصعداء، وشعرت بطمأنينة غريبة… وبقيت أروي هذه الحادثة كلما تذكرت طفولتي.
رحم الله أبي والعم أبو إبراهيم، وجزاهما عني خير الجزاء،
ولكم جميعاً طول العمر والبقاء.
من ذكريات الطفولة
عبد الرحيم عيسى